أحمد المصطفى عوّاض
كنت كطفل وجد نفسه في باحة واسعة ليست لها حدود ملئت جنباتها بالحلوى والكعك والبسكويت وكل ما تطيب له نفوس الأطفال من لعب وألوان بهيجة، وكان هناك دوما من يحث هذا الطفل الشره داخلي على أخذ ما يريد دون أن يرعوي فهناك الكثير، ويطمئنه قائلا لا تفزع إن وقع منك شيء، فستعوضه بخير منه فهناك دوما مزيد. كان هذا في حدود عام1998م حين كنت وصديقا أدعو الله أن يكون الآن في صحبة خير الأنام ويجالس الصديقين وحسن أؤلئك رفيقا، وهو أخي المغفور له بإذن الله "عوض يوسف محمد"، كنا نحاول جمع كلمة من يدعون أنفسهم بالفنانين وهم الموسيقيين والمغنيين المتفرقة كلمتهم في مدينة الرياض، وكان من ضمن تحركنا سويا في هذا السبيل أن عرفني على رجل لا تلد حواء مثله كل يوم، وقدمه لي بأنه الشخص الذي سوف أجد لديه الخلاص.
كان رجلا يستقبل أخاه ببسمة مرحبة ويمسح بنظرة أساه، ويضمد بكلماته جراحه، فهو رجل ما أن يلتقط من شخص ما طرف خيط من معاناة أو يلم بجانب من مشكلة، حتى يبعد صاحب المشكلة ليتولى عنه الجهد ويتصدر ليزيل المعاناة، مجنبا له إهراق ماء الوجه أمام من لا يهتم، لأنه منذ لحظة سماعه عن مشكلة شخص ما تصير في نظره مشكلته الشخصية، ولا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يجد لها الحل ويكون على يديه الشفاء، غير آبه لما يصرف من حر ماله إن صرف أو ما ينفق من عزيز وقته إن أنفق، فهو ليس كريما جوادا فحسب، بل هو الكريم الجواد بغير من. هذا الرجل الأسطورة هو المهندس الميكانيكي "أحمد المصطفى علي عوّاض"، ولا تكون صدفة ولا يكون غريبا أن تأتي معرفتي ولقائي بمثل هذا الرجل الشامخ على يدي شبيهه وصنوه، فـ "عوض يوسف" مثله ولا يقل عنه في كريم صفاته وحلو معشره وطيب خلقه، وقد شبا أخوين من قديم زمان وأتيا لبلد الغربة من نفس المدينة التي أخرجت لنا هامات شامخات من رجال السودان الذين خلدوا أسماءهم وخلدوا من تراثنا ومجد ماضينا، مدينة ودمدني العريقة
عرفني أخي "عوض" على أخي "أحمد"، وكأن كل منهما دوحة غناء ممتدة مليئة بالمغريات أمام طفل جحظت عيناه وزاغت وهو يتوزع لا يستطيع أن يحتوي كل ما يجد، كان "أحمد عوّاض" متحدثا لبقا يدير دفة الحديث بمهارة لا تتيح لسامعه فرصة لشرود أو ركود، وهو يحدث في كل شيء، ويعرف ما يجذب انتباه سامعه فيغمره به، فهو سياسي وهو إبن بلد وهو ملم بتاريخ السودان وتراثه، ومن أكثر ما كان يأسرني تناقضه الصريح الذي كان مثار تندري عليه، عليه رحمة الله ومغفرته، فهو يحكي عن السودان حكايات العارف الخبير، كمن لم يفارقه قط، وهو من لم يزر السودان عشرات السنين الممتدة، ويحدثك عن التداوي بالأعشاب وفضلها، ويفصل لك خصائص كل نبتة واستشفاءاتها، وهو من يشتكي من عديد العلل التي استوطنت بدنه حتى تآكلته تآكلا، ثم هو يعطيك من الأدعية والأذكار ما يملأ عليك كل ليلك قياما، وقد يحيد بك لعالم الموسيقى والغناء كمتلق له رأي وموقف، وهو يحب الموسيقى ويذوب مع صوت جميل.
أما لو صار الموقف إلى العمل العام ومساعدة الآخرين والبذل والجهد، فهي اللحظات التي يسكت فيها "أحمد عوّاض" عن الكلام إذ لا ترى منه حينها غير العمل، فيضرب للآخرين خير المثل بنتاج جهده وثمرته، وما "جمعية ودمدني الخيرية" و"الصالحية" اللتان جمعتا السودانيين من كل حدب وصوب، قبل وبعد التقسيم، واللتان كونهما من فراغ وأسسهما من مجرد فكرة حتى صارتا واقعا يناطح آفاق المعالي، ثم جاءت من بعدهما "صالة الكاشف" لتزينهما وهي التي أقامها وبناها من جيبه الخاص، ما كل هذا إلا الدليل الحي الناطق، الذي لا يجرؤ من يخشى تزوير الحقيقة، على دحضه أو إنكار جهده وتفانيه وبذل نفسه وإيلائها لقضاء حاجات الغير.
أما ما خبا عن أعين الناس فهو المحتاجون الذين أقال عثراتهم وأصحاب المشاكل التي تبناها عنهم والمواقف التي لا يقول ولا يحكى لأحد عنها، ولكن صلتي بالراحل المقيم "أحمد عوّاض" قد بلغت رغم هذه الفترة القصيرة ما خولني معرفة خبايا علاقته بالمساكين والمحتاجين وكيف كان يوزع عليهم ما في يده خفية، ولم أطلع على هذه التصرفات وهذا التكتم إلا بعد أن أقعده المرض فصار يطلب إلي أن أقله بسيارتي لمشوار شخصي، أكتشف خلاله أنه يوزع المال والمأكل للمساكين
ألا رحم الله "أحمد عواض" بقدر ما أقال من عثرات وبمثل ما قدم من أياد بيضاء ناصعة، شهدت على قليلها الذي رأيت، وأسكنه منزلا عاليا في الجنة
بعض الصور التي التقطتها معه في منزله بالبديعة بتاريخ 05أبريل2014م
وأخرى له بدار رابطة الصالحية بالرياض
وأخرى له بدار رابطة الصالحية بالرياض
دار مدني الخيرية |
إنتقل إلى صفحة |