ميلاد تجمع الفنانين
لا يكون خوض في موضوع تجمع الفنانين، أو موضوع الغناء إجمالا في الرياض، إلا وللأخ الغائب مكتمل الحضور "عوض يوسف" فيه وجود فاعل وأثر واضح، لذا سأبدأ من حيث تكون البداية، سأرجع إلى حين من الزمن لم يكن هناك تجمع للفنانين، وسأكون صريحا واضحا وسأذكر ما أعرف من معلومات أعلم أنها سوف لا تروق للبعض، وقد يجد البعض الآخر فيها سوءا يمسه، فليكن ما يكون، فقد آن لشمس الحقيقة أن تسطع، ولنور الحق أن يعم، فللحق الأدبي قيمة أغلى من الحق المادي، وكل نفس بما كسبت رهينة
لابد لي من الرجوع زمانا للوراء حتى يوم طرأت على خاطري فكرة إنشاء كيان مستقل يضم الفنانين، كل فئات الفنانين، موسيقيين ومغنين وشعراء وكتاب قصصيين ومسرحيين ورسامين، كيان يجمع ويوحد جهودهم، وذلك على غرار "منتدى الرياض الفني" الذي أقمته في منزلي سنوات متصلة، وتحدثت عنه بإسهاب في مكان آخر في هذا السياق، وقد حوى كل مجالات الفنون وفروعها، وكان نتيجة للقلق والوساوس التي باتت تعتريني خوفا على تدني نوعية الغناء السوداني الذي عايشته، وعشوائية مقدميه من موسيقيين ومغنين أعرف قلة منهم وأستهجن كثيرا من ما يقدمون ولا يرضيني في مجال الفنون ما يفعلون. واستنادا على العلاقة الودية الحميمة التي كانت تجمعني بالأخ "عوض يوسف"، وما خبرته فيه من حب لفنه واحترام لعموم الفن السوداني، فقد كان من الطبيعي أن يكون أول من أطرح عليه الفكرة، وقد صادفت هوى صادقا في نفسه لم يخفه، ورحب بها ترحيبا كبيرا، ودعمها دعما غير محدود
أول منتدى أدبي بالمملكة
قطعا للإستطراد، وللعلم وقبل تجاوز النقطة، فقد راودتني الفكرة أصلا عند نجاح تنفيذ أول منتدى أدبي فني يقام في المملكة ويحظى بالنجاح والاستمراريه قرابة عقد من الزمان، وهو الذي كنت هيأت له منزلي بالرياض لينعقد فيه بشكل لقاء أسبوعي مساء كل جمعة، فلم ينقطع طيلة أواخر عام 1991م إلى نهاية عام1999م، وقد ولد نتيجة فكرة من نفس النوع، وكان يضم موسيقيين ومغنين وشعراء وكتاب ومسرحيين وأدباء مهتمين بالفنون، وأغلب المغنين والموسيقيين القدامى في الرياض، الذين لم يزوروا هذا المنتدى، أو لم يشاركوا في جلساته المفتوحة لأي سبب، قد سمعوا عنه تقريظا، بل إنه قد شكل لبعض زائريه نقطة انطلاق وفخر واعتزاز، بعد أن تمت إجازتهم وقبولهم من قبل أعضاء ذاك المنتدى، رغم أن الإجازات كانت شفوية وليس هناك شهادات مكتوبة، ولا هو الجهة المخولة لمثل تلكم الإجازات. وقد تشكلت جل عضوية المنتدى من أسماء معروفة في عالم الفن السوداني، فمن لا يعرف الأستاذ صديق مدثر، الأديب الشاعر الذي تغنى بشعره صفوة فناني الصف الأول بالسودان، ويكفينا أنه من استنطق الصخر العصيَ، ثم هناك الراحل العزيز حيدر حدربي، الذي وضع اللبنات الأولى في أساس الغناء الموجه بالسودان فغنى لأطفالنا "حلاة الزهرة"، أو المرحوم محمد فتح الرحمن، المناضل الذي وهب حياته للكتابة المسرحية، وخلف ضمن الكثير "في انتظار البترول، وزوجة واحدة لا تكفي"، ثم هناك المبدع محمد حسنين "أبوسريع" أشهر من أدى أغنية "السايق البوباي"، يأتي بعدهم في السياق الزمني فتحي حسين، صاحب أغنية "العزيزة" التي رددها ومازال كل السودان، ثم مغني الطمبور عبود تبوري الذي أضاف للمنتدى ثقلا بأغنيات شمال السودان المتفردة، وتثقيفا بشرحه واستعراضه ما يربو على ستة عشر تفرعا من تعقيدات إيقاعات "الدليب" المتنوعة، وقد شكل البلبل الصداح "عوض يوسف" ركيزة أساسية من ركائز ذاك المنتدى
شكلت كل هذه الأسماء ووجودها الأسبوعي تحت سقف واحد أداة جذب قوية جلبت مدا هائلا من الزائرين المتلهفين أسبوعيا، وعودة للإستطراد في موضوع تجمع الفنانين، فقد دعمني أخي "عوض يوسف" كثيرا وسر لطرحي الفكرة عليه، ومن ثم تولى شرح الموضوع للأخ "محمد البصير" الذي لم يتوان منذ اللحظات الأوائل، في حمل المشعل معنا، فصرنا ثلاثتنا، نعدو لنجمع شمل من تبعثروا ونلهث لنلم شعث من تفرقوا، ونضمهم تحت لواء يوحدهم، ومظلة تقيهم هجير التشتت
كان من أول وأكبر همومنا حينذاك إيجاد المقر الذي يصلح لإيواء أعداد، أملنا أن تكون كبيرة، تضم جل الموسيقيين بالرياض، إن لم يكن كلهم، وعرفني حينها أخي "عوض" على رجل يكاد يبرئ المريض بلمسة أو كلمة أو إبتسامة، وقد قدم لنا ذاك الرجل حل مشكلة المقر بأريحية السوداني الذي يقدم كوبا من الشاي لضيف يعزه، عرفني "عوض يوسف" على "أحمد عوّاض"، مؤسس ورئيس دار مدني الخيرية، الذي قدم لي كوب الشاي مصحوبا بالمقر، مشفوعا بخدماته التي أكد لي أنها متاحة دون طلب ولا منة
جهد ثلاثتنا، (هاشم خوجلي، عوض يوسف ومحمد البصير)، جهدا خارقا وحفيت أقدامنا سعيا ورهقا، لنشر فكرة الوليد الجديد، مع التركيز في البداية على الموسيقى والموسيقيين، ثم ليكونن لاحقا ضم الفئات الأخرى من فروع الفن، وحدد أربعتنا أخيرا، بعد انضمام "أحمد عوّاض" إلينا، يوما للقاء الكبير ليكون بمثابة جمعية عمومية أملنا أن تتمخض عن الكيان الوليد، فالخبر نشر والدعوات تناثرت على كل أرجاء مدينة الرياض الشاسعة، والدار تهيأت في "صالة الكاشف"، بدار مدني الخيرية، والتي تم إنشاؤها بجهد وبذل خالص من الطرح الكريم لمدينة ودمدني "أحمد عواض" و"عوض يوسف" عملا وبذلا وعطاء
|