عمر أحمد
كان بدري عليك
الأصل - بصوت عمر أحمد
هذا مقال نادر كتبه الشاعر "عبدالرحمن الريّح" في عام 1956م، يقول فيه، والعهدة في كل ما يأتي على الراوي، الذي حدد مرجعه بالتالي: ه فضلاً راجع: عبدالرحمن الريح: (كيف قدمت عمر أحمد للإذاعة؟ - مجلة هنا أم درمان، ع 43، 5/7/1956م.) ه كان "عمر أحمد" يسكن مع شقيقه الأكبر "محمد مدني" في نفس الحي الذي نقيم به نحن في حي العرب بأم درمان. أما أهله وعشيرته ففي مدني. وكان "عمر أحمد" كلما لقيني في الطريق يتبعني بنظرات بريئة حالمة. إذ كان له وراء هذه النظرات البعيدة آمال جسام وأحلام جميلة. ولكني لم أعلم من أمره شيئاً سوى أنه أحد صبية الحي. وفي ذات أمسية هادئة أتاني به أحد أصدقائي الهواة الى منزلي، وقال لي *اسمع هذا الصوت العجيب*. فتجاهلته في بادئ الأمر، وانشغلنا عنه وهو صامت لا يتكلم. فسألته *ما اسمك؟* قال *عمر أحمد*. فسررت لخفة الاسم وموسيقيته. وقلت له *ماذا تحفظ من الأغاني؟* قال *"الفتان جماله"*. ففهمت من ذلك أن صاحبنا متأثر بزميله الصغير "الفاتح حاج سعد". وكان "عمر" يعلم جيدا أنني الذي قدمت "الفاتح" للإذاعة. بدأت أعزف له أغنية "الفتان جماله". فطربت من جمال صوته وحسن أدائه، حتى اضطربت يدي أثناء العزف، فضحك صاحبي وتأكد أنني قد وقعت في حبائل هذا الصوت. واستمعنا منه مرة ثانية لأغنية "القطار المر" للفنان "عثمان الشفيع"، فكان مبدعاً حقاً. ه ويمضي الشاعر "عبدالرحمن الريح" للقول: قال لي صاحبي *ما رأيك؟* قلت له *عظيم. سأنظم له أغاني تتناسب مع طبقات صوته، ولكني أخشى أن يتغير صوته فجأة من جراء البلوغ فيحدث له ما حدث "للفاتح" من قبل*. فقاطعنا هو، "عمر أحمد" بقوله *أنا بلغت من عامين*. فسكتنا برهة، ولكن هذا التصريح منه شجعني بعض الشئ، وإن كنت لم أقتنع بما قال. ظل "عمر" يتصل بي زهاء شهرين بعد استماعي له، لم ينقطع خلالها ولم يتطرق اليأس إلى نفسه، فقلت لأنظم له أغاني، ولتكن تجربة جديدة. فنظمت له من الأغاني ما تخيلته سهلاً يساعده على الحفظ، إذ إنه كان أمياً لا يقرأ. ووضعت له الألحان التي تتطابق مع طبقات صوته الرقيق، فكانت ثلاث أغنيات، الأولى "كان بدري عليك"، والثانية "مهما فيه فؤادي ينوب"، والثالثة "ليه ده كله يا حبيبي". ولقد استغرقت هذه الأغاني معنا في التلحين والحفظ والبروفات المتوالية ما لا يقل عن ثمانية أشهر كاملة. ه ويضيف: قدمته لمحطة الإذاعة فاستمع له رجال الإذاعة من مراقب وموظفين وفنانين وعازفين، فكان موضع إعجابهم جميعاً. وكنت أنا أقوم بالعزف له على العود أثناء البروفات والتمرينات مع الأوركسترا، وكل الحفلات الأولى التي قدمها. حدد لنا المراقب السابق للإذاعة يوم تقديمه الى الجمهور فحضرنا وكان قلبي يدق دقات سريعة، إذ إني خفت أن يضطرب أو يتلعثم أمام الميكروفون، ولكننا خرجنا بحمد الله منتصرين، ووجدنا أفراد الجمهور في الترام والطرقات وفي كل مكان يرددون مطلع الأغنية "كان بدري عليك" ولم يمض على ظهورها أكثر من عشرة دقائق. وهكذا أحرز "عمر أحمد" من الانتصارات الفنية في مدة أسبوع ما لم يحرزه كبار الفنانين في بضعة أعوام. وما كاد "عمر أحمد" يذيع الحفلة الثالثة والرابعة، إلا وقد انهالت علينا الرسائل والبرقيات والإشارات التلفونية من خارج العاصمة، مطالبة بإحضاره لإحياء الليالي على المسارح، فكنت أنا أصحبه في كل رحلاته الفنية خارج العاصمة وداخلها لأحافظ عليه، إذ إنه كان أمانة في عنقي من قبل أهله، أو كأني كنت أحس أن هناك قدراً يترصده". ه |
هذاالفنان الذي رحل في مقتبل صباه قد سجل فقط أسطوانتين لأغنية "كان بدري عليك"، التي شاء الحظ أن تتولى الإذاعة السودانية، عند انتقالها إلى مبناها الحالي في عام 1957م، نقلها من جهاز الفونوغراف إلى شريط التسجيل، أسوة بما أدركه الحظ من أسطوانات، وأغنية "الطاؤوس"، وقد سجل الفنان "خليل إسماعيل" والفنان "أحمد الجابري" أغنية "الطاؤوس" أو "ملك الطيور" كل حسب رؤيته، وانتشر تسجيلاهما أكثر من التسجيل الأصلي بصوب الفنان "عمر أحمد"، أما الفنان "أبوعركي البخيت" فقد ساهم في نشر أغنية "كان بدري عليك" أول ظهوره وسط جيل الشباب الذي لم يكن يعرف عنها شيئا ولازال لا يعرف عن صاحبها شيئا. ه الفنان "عمر أحمد" من مواليد مدينة ودمدني. قدمه الشاعر "عبدالرحمن الريح" إلى الإذاعة عام 1949م، بأغنية "كان بدري عليك" التي رددتها أصوات عدة على مر العقود، ولكن يظل الأصل أصلا. كان "عمر أحمد" في الثالثة عشرة من عمره حين قدم تلك الأغنية. وأردفها بأغنية "مهما فؤادي فيك يذوب" و"ليلة التلاقي"، و"الطاؤوس" أو "ملك الطيور" التي تغنى بها الفنانان "أحمد الجابري" و"خليل إسماعيل"، وهي مسجلة لدى مكتبة الإذاعة بصوت "أحمد الجابري". أيضا غنى " ليه ده كلو يا حبيبي" التي سجلها للإذاعة وتغنى بها الفنان "خليل إسماعيل". ه للفنان عمر أحمد" أغنيات أخرى لم يدركها التسجيل، أو نقول إن توخينا الدقة أنها ربما سجلت في أسطوانات، كما كان الوضع في الإذاعة عام 1948م، ،لكنها لسبب أو لآخر لم تنقل إلى الأشرطة، ومن ضمنها أغنية "الطاؤوس" المشار إليها سابقا. ه ومن الراجح أن "عمر أحمد" سجل أكثر من أغنية مع "كان بدري عليك"، لأن مكتشفه وشاعره وملحنه الأستاذ "عبدالرحمن الريح" إعتاد أن يزود المطربين النشء بما لا يقل عن ثلاث أغنيات لتسجيلها للإذاعة. هكذا فعل، على سبيل المثال، مع الفنان الذري "إبراهيم عوض" الذي قدمه إلى الإذاعة عام 1953م. ه هذا، وليس سرا إندلاع الحريق الكبير الذي شب في الإذاعة سنة 1957م، وأتى على الكنوز المكنونة في مكتبتها من الأسطوانات حينها، وهي مجموعة نادرة بحقً، وقد قيل أنها تحوي مجموعة أغنيات سجلها كروان السودان "كرومة" بمصاحبة الفرقة الموسيقية. ورغم تمسك مراقب الإذاعة المسؤول حينها بأن الحريق لا يعدو أن يكون حادثة عرضية مؤسفة، إلا أن بعض المهتمين بشؤون الإذاعة والغناء زعموا أن الحريق كان مدبرا، فنشط الحادبون والمشككون في أسباب الحريق على تجميع الأسطوانات ممن يملكونها ومن مقاهي الخرطوم وأمدرمان التي كانت تملك أجهزة الفونوغراف، وقاموا بنسخها على الأشرطة "الريل" رغم التشويش الذي كان من الصعب جدا تجنبه. ه في عام 1951م اعتزل عمر أحمد الغناء بعدما تغير صوته واخشوشن، إثر بلوغه سن الرشد. وتوفي عام 1956م عن 20 عاماً فحسب، بعد معاناة دامت سنوات من صداع رهيب، نتج عن اصطدام رأسه بباب "نفَّاج"، داخل المنزل الذي أقام فيه في حي العرب في أم درمان. ه |